تأثير الموسيقى على الصحة

لطالما ارتبطت الموسيقى بالتعبير الإنساني والفن والترفيه، غير أن الأبحاث العلمية في العقود الأخيرة كشفت عن أبعاد خفية وعميقة لتأثير الموسيقى على الجسم والعقل. لم تعد الموسيقى مجرد وسيلة لإشباع الذائقة الجمالية أو للهروب من الواقع، بل أصبحت تُدرَس كعامل فعال في تعديل وظائف الجسم الحيوية، وتحسين الصحة النفسية، وحتى تسريع الشفاء من الأمراض. لا يقتصر تأثير الموسيقى على الحالة المزاجية فحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل الجهاز العصبي، والمناعة، والهرمونات، بل وحتى الجينات. في هذا المقال المطول، سنتناول ثلاث طرق غريبة ومدهشة تؤثر بها الموسيقى على الصحة، مدعومة بالأدلة العلمية والدراسات الحديثة، لفهم كيف يمكن لهذا الفن أن يكون دواءً غير مرئي يعمل في صمت.

أولًا: الموسيقى تغيّر بنية الدماغ حرفيًا

أحد أبرز الاكتشافات في علم الأعصاب هو ما يُعرف بـ”اللدونة العصبية” (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على إعادة تشكيل نفسه استجابة للتجارب والتعليم. والمثير أن الموسيقى تساهم بفعالية في هذه العملية، ليس فقط من خلال العزف أو التعلم، بل حتى عبر الاستماع المنتظم.

أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي (fMRI) أن الدماغ يتفاعل مع الموسيقى بطريقة معقدة تشمل تنشيط شبكات عصبية متعددة في القشرة السمعية، والفص الجبهي، والفص الصدغي، والمخيخ. عند الاستماع للموسيقى، يحدث تحفيز لمناطق الدماغ المسؤولة عن التركيز، الذاكرة، والحركة، مما يؤدي مع الوقت إلى تغيرات في كثافة المادة الرمادية وترابط الخلايا العصبية.

في دراسة نُشرت في مجلة Nature Neuroscience عام 2013، وُجد أن الأطفال الذين يتلقون دروسًا منتظمة في الموسيقى يظهر لديهم نمو أسرع في القشرة السمعية واللغوية مقارنةً بأقرانهم. أما لدى البالغين، فقد لاحظت أبحاث في جامعة هارفارد أن الموسيقى تُعزز من كفاءة الاتصال بين الفص الجبهي المسؤول عن اتخاذ القرار، والفص الحُوفي المرتبط بالعواطف، مما يؤدي إلى تحكم أفضل في الانفعالات وتقليل الاستجابة للتوتر.

هذا التأثير لا يقتصر على الموسيقى الكلاسيكية أو الجادة فحسب، بل يمكن أن يظهر حتى مع الموسيقى الإلكترونية أو الشعبية، بشرط أن يكون الاستماع منتظمًا ومصحوبًا بتركيز ذهني.

ثانيًا: الموسيقى تُنظم إفراز الهرمونات الحيوية

الهرمونات هي رسل الجسم الكيميائية التي تتحكم في معظم وظائفنا الفسيولوجية. والمذهل أن الاستماع للموسيقى يؤثر مباشرة على إفراز العديد من هذه الهرمونات، ما يجعلها وسيلة فعالة للتوازن البيولوجي.

1. الكورتيزول – هرمون التوتر

تشير دراسات عديدة إلى أن الاستماع للموسيقى الهادئة يؤدي إلى انخفاض كبير في مستويات الكورتيزول، وهو الهرمون المسؤول عن الاستجابة للضغوط النفسية والجسدية. في دراسة نُشرت في مجلة Psychoneuroendocrinology، تبيّن أن مرضى خضعوا لجراحة وأُتيح لهم الاستماع لموسيقى قبل العملية، أظهروا انخفاضًا ملحوظًا في مستويات الكورتيزول، مقارنة بمن لم يستمعوا لأي موسيقى.

2. الدوبامين – هرمون السعادة والتحفيز

الموسيقى تُحفز إفراز الدوبامين في الدماغ بنفس الطريقة التي يفعلها الطعام اللذيذ أو الشعور بالنجاح. وُجد في دراسة أجرتها جامعة ماكغيل الكندية أن لحظات الذروة في الموسيقى (مثل تصاعد النغمات أو الذروة العاطفية في المقطوعة) ترتبط بارتفاع كبير في مستوى الدوبامين في النواة المتكئة (Nucleus Accumbens)، وهي جزء أساسي في نظام المكافأة في الدماغ.

3. الأوكسيتوسين – هرمون الارتباط والثقة

يُعرف الأوكسيتوسين باسم “هرمون العناق”، وهو مسؤول عن الشعور بالترابط العاطفي والثقة. تشير الأبحاث إلى أن الغناء الجماعي أو الإنشاد مع الآخرين يمكن أن يرفع من مستويات الأوكسيتوسين، مما يُفسر لماذا تعزز الموسيقى الجماعية من الشعور بالانتماء.

ثالثًا: الموسيقى تُحفّز مناعة الجسم وتُسرّع الشفاء

الربط بين الفن والمناعة قد يبدو غير منطقي للوهلة الأولى، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن الاستماع للموسيقى يمكن أن يُعزز جهاز المناعة، بل ويُسرّع عمليات الشفاء في المستشفيات.

أظهرت دراسة في جامعة كاليفورنيا أن الموسيقى تؤثر على عدد الخلايا القاتلة الطبيعية (NK Cells) وهي إحدى أدوات الجهاز المناعي الرئيسية في الدفاع عن الجسم ضد الفيروسات والخلايا السرطانية. المرضى الذين استمعوا إلى الموسيقى خلال فترة النقاهة بعد العمليات الجراحية سجلوا تحسنًا في مؤشرات المناعة، وانخفاضًا في معدلات العدوى، مقارنةً بمن لم يتعرضوا لأي نوع من التحفيز السمعي.

من جهة أخرى، أثبتت أبحاث في معهد كورنيل الطبي أن المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السرطان أو اضطرابات القلب ويشاركون في جلسات علاج بالموسيقى يظهر لديهم تحسن في المزاج، انخفاض في الآلام، وارتفاع في معدلات الشفاء بشكل أسرع من المعتاد.

أضف إلى ذلك، أن الموسيقى تُستخدم اليوم في مراكز العلاج الطبيعي لتحسين الحركة لدى المصابين بالشلل النصفي أو التصلب المتعدد. فقد تبين أن الموسيقى الإيقاعية تُنشط مناطق الحركة في الدماغ، وتحفّز الأعصاب العضلية، مما يُسرّع استعادة القدرة على المشي أو استخدام الأطراف.

الموسيقى كأداة علاجية مستقبلية

الاهتمام العلمي باستخدام الموسيقى كأداة علاجية لم يعد محدودًا بمجال الطب النفسي فحسب، بل بدأ يمتد إلى مجالات مثل علم الأورام، وأمراض القلب، والأمراض التنكسية العصبية. هناك اليوم عشرات البرامج العلاجية التي تستخدم الموسيقى في المستشفيات الكبرى حول العالم، منها:

• العلاج بالموسيقى للأطفال المصابين بالتوحد لتحسين التفاعل الاجتماعي.

• الموسيقى الإيقاعية لمرضى باركنسون لتنسيق الحركة.

• الاسترخاء الموسيقي لمرضى القلب لتقليل ضغط الدم ومعدل ضربات القلب.

• الموسيقى المصاحبة للعلاج الكيماوي لتقليل الغثيان والألم.

في هذا السياق، يمكن النظر للموسيقى ليس فقط كترفيه، بل كـ”دواء صوتي” يحمل آثارًا علاجية قابلة للقياس.

خاتمة علمية

في ضوء الأدلة المتزايدة، بات من الواضح أن الموسيقى تُعد من أقوى الأدوات غير الدوائية القادرة على تعديل الصحة النفسية والجسدية على حد سواء. قدرتها على إعادة تشكيل الدماغ، وتنظيم إفراز الهرمونات، وتعزيز المناعة، تجعل منها عنصرًا أساسيًا ينبغي إدماجه بذكاء في خطط الرعاية الصحية الحديثة. إنها ليست مجرد فن، بل هي نظام بيولوجي معقّد يعمل بتناغم مع الجسم الإنساني. ومن المؤكد أن مستقبل العلاج بالموسيقى سيشهد تطورًا أكبر مع تقدم أبحاث الأعصاب والذكاء الاصطناعي لتحليل استجابات الأفراد الموسيقية وصياغة برامج علاجية مُخصصة.

المراجع العلمية:

1. Chanda, M. L., & Levitin, D. J. (2013). The neurochemistry of music. Trends in Cognitive Sciences.

2. Thoma, M. V., et al. (2013). The effect of music on the human stress response. PLoS ONE.

3. Koelsch, S. (2015). Music-evoked emotions: principles, brain correlates, and implications for therapy. Annals of the New York Academy of Sciences.

4. Nilsson, U. (2008). The anxiety- and pain-reducing effects of music interventions. AORN Journal.

5. Menon, V., & Levitin, D. J. (2005). The rewards of music listening: Response and physiological connectivity of the mesolimbic system. NeuroImage.